فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{والذين كَذَّبُواْ بآياتنا} شروعٌ في تحقيق الحقِّ الذي به يهدي الهادون وبه يعدِل العادلون، وحملُ الناسِ على الأهتداء به على وجه الترهيب، ومحلُّ الموصولِ الرفعُ على أنه مبتدأ خبرُه ما بعده من الجملة الاستقبالية، وإضافةُ الآياتِ إلى نون العظمةِ لتشريفها واستعظامِ الإقدام على تكذيبها، أي والذين كذبوا بآياتنا التي هي معيارُ الحقِّ ومصداقُ الصدقِ والعدل {سَنَسْتَدْرِجُهُم} أي نستدنيهم ألبتةَ إلى الهلاك شيئًا فشيئًا، والاستدراجُ استفعالٌ من درَجَ إما بمعنى صعِد ثم اتُسِع فيه فاستُعمل في كل نقل تدريجيَ سواءٌ كان بطريق الصعودِ أو الهبوط أو الاستقامة، وإما بمعنى مشى مشيًا ضعيفًا، وإما بمعنى طوَى، والأولُ هو الأنسبُ بالمعنى المرادِ الذي هو النقلُ إلى أعلى درجاتِ المهلكِ ليبلُغ أقصى مراتبِ العقوبة والعذاب، ثم استعير لطلب كل نقل تدريجيَ من حال إلى حال من الأحوال الملائمةِ للمنتقل الموافقةِ لهواه بحيث يزعُم أن ذلك ترقَ في مراقي منافعِه مع أنه في الحقيقة تردَ في مهاوي مصارعِه، فاستدراجُه سبحانه إياهم أن يواتِرَ عليهم بالنعم مع انهماكهم في الغيّ فيحسَبوا أنها لُطفٌ لهم منه تعالى فيزدادوا بطرًا وطغيانًا لكن لا على أن المطلوبَ تدرُّجُهم في مراتب النعمِ بل هو تدرجُهم في مدارج المعاصي إلى أن يحِقَّ عليهم كلمةُ العذاب على أفظع حالٍ وأشنعها، والأولُ وسيلةٌ إليه وقوله تعالى: {مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} متعلقٌ بمضمر وقع صفةً لمصدر الفعلِ المذكور، أي سنستدرجهم استدراجًا كائنًا من حيث لا يعلمون أنه كذلك بل يحسَبون أنه أثَرةٌ من الله عز وجل وتقريبٌ منه، وقيل: لا يعلمون ما يراد بهم. اهـ.

.قال الألوسي:

{والذين كَذَّبُواْ بآياتنا}.
ولم تنفعهم هداية الهادين كأهل مكة وغيرهم، واقتصر بعضهم على الأولين والعموم أولى، وإضافة الآيات إلى ضمير العظمة لتشريفها واستعظام الإقدام على تكذيبها، والموصول في محل الرفع على أنه مبتدأ خبره جملة {سَنَسْتَدْرِجُهُم} أي سنستدنيهم البتة إلى الهلاك شيئًا فشيئًا، وجوز أن يكون في محل النصب بفعل محذوف يفسره المذكور، والاستدراج استفعال من الدرجة بمعنى النقل درجة بعد درجة من سفل إلى علو فيكون استصعادًا أو بالعكس فيكون استنزالًا وقد استعمله الأعشى في قوله:
فلو كنت في جب ثمانين قامة ** ورقيت أسباب السماء بسلم

ليستدرجنك القول حتى تهره ** وتعلم أني عنكم غير مفحم

في مطلق معناه، وقال بعضهم: هو استفعال من درجة إما بمعنى صعد ثم اتسع فيه فاستعمل في كل نقل تدريجي سواء كان بطريق الصعود أو الهبوط أو الاستقامة، وإما بمعنى مشى مشيًا ضعيفًا ومنه درج الصبي وإما بمعنى طوى ومنه أدرج الكتاب ثم استعير لطلب كل نقل تدريجي من حال إلى حال من الأحوال الملائمة للمنتقل الموافقة لهواه، واستدراجه تعالى إياهم بإدرار النعم عليهم مع إنهماكهم في الغي، ولذا قيل: إذا رأيت الله تعالى أنعم على عبد وهو مقيم على معصيته فاعلم أنه مستدرج، وهذا يمكن حمله على الاستصعاد باعتبار نظرهم وزعمهم أن متواترة النعم إثرة من الله تعالى وهو الظاهر، وعلى الاستنزال باعتبار الحقيقة فإن الجبلة الإنسانية في أصل الفطرة سليمة متهيئة لقبول الحق لقضية كل مولود يولد على الفطرة فهو في بقاع التمكن على الهدي والدين فإذا أخلد إلى الأرض واتبع الشهوات وارتكب المعاصي والسيآت ينزل درجة درجة إلى أن يصير أسفل السافلين، وأيًا ما كان فليس المطلوب إلا تدرجهم في مدراج المعاصي إلى أن يحق عليهم كلمة العذاب الأخروي أو الدنيوي على ما قيل على أفظع حال وأشنعها وإدرار النعم وسيلة إلى ذلك {مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} أنه كذلك بل يحسبون أنه إثرة من الله تعالى، وقيل: لا يعلمون ما يراد بهم، والجار والمجرور متعلق بمضمر وقد صفة لمصدر الفعل المذكور أي سنستدرجهم استدراجًا كائنًا من حيث لا يعلمون. اهـ.

.قال ابن عاشور:

قوله تعالى: {والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم}.
والذين كذبوا بالآيات هم المشركون الذين كذبوا بالقرآن، وقد تقدم وجه تعدية فعل التكذيب بالباء؛ ليدل على معنى الإنكار عند قوله تعالى: {قل إني على بينةٍ من ربي وكذبتم به} في سورة الأنعام (57).
والاستدراج مشتق من الدّرَجة بفتحتين وهي طبقة من البناء مرتفعة من الأرض بقدر ما ترتفع الرِّجْل للارتقاء منها إلى ما فوقها تيسيرًا للصعود في مثل العلو أو الصومعة أو البرج، وهي أيضًا واحدة الأعواد المصفوفة في السلم يرتقى منها إلى التي فوقها، وتسمى هذه الدرجة مرقاة، فالسين والتاء في فعل الاستدراج للطلب، أي طلب منه أن يتدرج، أي صاعدًا أو نازلًا، والكلام تمثيل لحال القاصد إبدال حال أحد إلى غيرها بدون إشعاره، بحال من يطلب من غيره أن ينزل من درجة إلى أخرى بحيث ينتهي إلى المكان الذي لا يستطيع الوصول إليه بدون ذلك، وهو تمثيل بديع يشتمل على تشبيهات كثيرة، فإنه مبني على تشبيه حُسن الحال برفعة المكان وضده بسفالة المكان، والقرينة تعيّن المقصود من انتقال إلى حال أحسن أو أسوا.
ومما يشير إلى مراعاة هذا التمثيل في الآية قوله تعالى: {من حيث لا يعلمون} ولما تضمن الاستدراج معنى الإيصال إلى المقصود علق بفعله مجرور بمن الابتدائية أي مبتدئًا استدراجهم من مكان لا يعلمون أنه مفض بهم إلى المبلغ الضار، ف {حيث} هنا للمكان على أصلها، أي من مكان لا يعلمون ما يفضي إليه، وحذف مفعول يعلمون لدلالة الاستدراج عليه، والتقدير: لا يعلمون تدرجه، وهذا مؤذن بأنه استدراج عظيم لا يظن بالمفعول به أن يتفطن له. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182)}.
وهؤلاء هم المقابلون للذين خلقهم الله أمة يهدون بالحق وبه يعدلون، والآيات جمع آية، وقلنا: إن الآيات التي في الكون ثلاث؛ آيات تنظرها تهتدي بها إلى من صنع ذلك الكون المترامي الأطراف بتلك الدقة العظيمة، وذلك الإحْكام المتقن، آيات تلفتك مثل الليل والنهار والشمس والقمر، وكذلك آيات تخرق ناموس الكون لتثبت صدق الرسول بالبلاغ عن الله، وآيات قرآنية تحمل منهج الله. والذين كذبوا بآيات الله الكونية ولم يعتبروا بها، ولم يستنبطوا منها وجود إله قوي قادر حكيم، وكذبوا الآيات المعجزات لصدق النبوة، وكذلك كذبوا آيات القرآن فلم يعملوا بها، ولم يتمسكوا بها؛ هؤلاء يلقون الحكم من الله فلن يدخلهم الحق النار فقط، بل لهم عذاب أقرب من ذلك في الدنيا، لأن المسألة لو أجلت كلها للآخرة لاستشرى بغي الظالم الذي لا يؤمن بالحياة الآخرة، لكن من يؤمن بالآخرة هو من سيحيا بأدب الإيمان في الكون، وتكون حركته جميلة متوافقة مع المنهج. عكس من يعربد في الكون؛ لذلك لابد أن يأتي العقاب لمن يعربد في الكون أثناء الحياة الدنيا، وسبحانه وتعالى القائل: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ...} [الطور: 47] أي أن لهم عذابًا قبل الآخرة.
ويقول الحق بعد ذلك عن العذاب في الدنيا: {والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ}.
وحين تقول: أنا استدرجت فلانا، فأنت تعني أنك أخذت تحتال عليه حتى يقر بما فعل، مثل وكيل النيابة حين يحقق مع المجرم، ويحاصره بالأسئلة من هنا، ومن هناك، إلى أن يقر ويعترف، وهذا هو الاستدراج. والاستدراج من الدرج ونسميه في لغتنا اليومية السلَّم وهو وسيلة للانتقال من أسفل إلى أعلى ومن أعلى إلى أسفل فمن المستحيل على الإنسان أن يقفز بخطوة واحدة إلى الدور الخامس مثلا في عمارة ما، ولذلك صمموا الصعود على درجات إلى مستويات متعددة على وفق الحركة العادية للنفس، وهناك من يجعل علو الدرجة مثلًا اثنى عشر سنتيمترًا بحيث يستطيع كل إنسان أن يرفع قدمه ويضعها على الدرج دون إرهاق النفس، وهذا يعني أننا نستدرج العلو لنصل إليه أو ننزل منه.
وقد خصوا في الآخرة الجنة بالدرجات العليا، والنار بالدرجات السفلى.
وهنا يقول الحق: {والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 182].
أي نأخذهم درجة درجة، ونعطي لهم نعمة ثم نرهقهم بما وصلوا إليه، كما قال سبحانه من قبل: {حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً...} [الأنعام: 44].
لأن الله حين يريد أن يعاقب واحدًا على قدر جرمه في حق أخيه الإنسان في الدنيا يأخذه من أول جرم؛ لأن الأخذة في هذه الحالة ستكون لينة، لكنه يملي له ويعليه ثم يلقيه من عَلِ. {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً...} [الأنعام: 44].
وهكذا يكونُ الآخذ أخذ عزيز مقتدر.
وحينَ يستدرج البشرُ، فإن الطرف المستدرج له أيضًا ذكاء، ويعرف أن هذا نوع من الكيد وفخ منصوب له، لَكنْ حين يكون ربنا القوي العزيز هو الذي يستدرج فلن يعرف أحد كيف يفلت. والعلة في قوله: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ} هي قوله: {مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ}؛ لأن البشر يعلمون طرق استدراج بعضهم لبعض. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله تعالى: {والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم} الآية.
والذين فيه وجهان: أظهرهما: أنه مبتدأ، وخبره الجملة الاستقبالية بعده.
والثاني: أنه منصوب على الاشتغال بفعل مقدر تقديره: سنستدرج الذين كذبوا، والاستدراج التقريب منزلة منزلة، والأخ قليلا قليلا من الدرج؛ لأن الصاعد يرقى درجة درجة وكذلك النازل.
وقيل: هو مأخوذ من الدرج وهو الطي، ومنه درج الثوب: طواه، ودرج الميت مثله، والمعنى: تطوى آجالهم.
وقرأ النخعي وابن وثاب: سيستدرجهم بالياء، فيحتمل أن يكون الفاعل الباري تعالى وهو التفات من المتكلم إلى الغيبة، وأن يكون الفاعل ضمير التكذيب المفهوم من قوله: {كذبوا}؛ وقال الأعشى في الاستدراج: [الطويل]
فلو كنت في جب ثمانين قامة ** ورقيت أسباب السماء بسلم

ليستدرجنك القول حتى تهره ** وتعلم أني عنكم غير مفحم

فصل:
ويقال: درج الصبي: إذا قارب بين خطاه، ودرج القوم: مات بعضهم إثر بعض. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182)}.
الاستدراج أن يلقى في أوهامهم أنهم من أهل الوصلة، وفي الحقيقة: السابقُ لهم من القسمة حقائقُ الفُرقة.
ويقال الاستدراجُ انتشار الصيت بالخير في الخلْق، والانطواء على الشر- في السر- مع الحق.
ويقال الاستدراج ألا يزداد في المستقبل صحبةً إلا ازداد في الاستحقاق نقصان رتبة.
ويقال الاستدراج الرجوع من توهم صفاء الحال إلى ركوب قبيح الأعمال، ولو كان صادقًا في حاله لكان معصومًا في أعماله.
ويقال الاستدراج دعاوى عريضة صدرت عن معانٍ مريضة.
ويقال الاستدراج إفاضة البرِّ مع (...) الشكر. اهـ.